#يوميات_اتنين_متزوجين - الحلقة السابعة عشر
#يوميت_عمر_وسارة
قــالت ســارة:
لن أنسى تلك اللحظة التي أخبرني فيها عمر بعدم اختيار الشركة لتصميمه .. وقتها تماسكت ولم أنفجر في البكاء كما كنت أتمنى .. واجتهدت أن أخرج صوتي طبيعي وأنا أكمل إجابته: وما اختاروش مشروعك مش كده، طيب وفيها إيه؟ ماهو الإحتمال ده كنا متوقعينه برضه؟ إيه المشكلة؟ فردّ عليّ عمر وكأنـّه كهل عجوز يحمل الدنيا فوق كتفيه: إيه المشكلة؟! إيه البساطة دي؟!! المشكلة إنـّنا خسرنا كل حاجة .. إنتي خسرتي كل ذهبك، وأنا خسرت ثقتي في نفسي، وشكلي أمام الكل، وخسـّرتك معايا كل حاجة ..
فرددت بمرح: الكل مين يا حبيبي؟ أنا بس اللي عارفة الموضوع ده .. وبعدين تفتكر شكلك ح يتهز قدامي من محاولة خسرتها؟ .. ده إنت الدنيا وما فيها يا حبيبي، وفداك دهب العالم كله ..
فلم يستطع النظر إلى عيني، وأشاح وجهه عني كي لا أرى دموع عينيه: أرجوكي يا سارة، إنتي بتزودي إحساسي بالذنب بكلامك ده ..أنا خذلتك وضيعت كل حاجة، وربنا يقدرني وأعوضك .. أنا آسف آسف آسف ..
فأخذت أقرأ آيات القرآن على جبينه كي يهدأ، وأنا أطلب من الله القوة والعون كي لا أنهار مثله .. من يقول عن المرأة أنها أضعف من الرجل؟ .. إنه مطلوب منها أن تكون زوجته وحبيبته وأخته وصديقته وأمه أيضاً .. فهداني الله لفكرة من الممكن أن تهدئه قليلاً، فقلت له: يا ريت كلّ الخسارة تكون في الفلوس .. تخيل لو إنـّك حصل لك حاجة حنعمل إيه أنا وإبنك في الدنيا؟ ربنا يخليك لنا ألف سنة .. أنت لسه بكامل صحتك وفي عز شبابك .. وتستطيع فعل المعجزات .. تخيل لو فقدت هذه الصحة وكسبت المشروع؟ أيهم سيسعدك أكثر؟
فهدأ قليلا لكلامي ولكنه رد بألم وقال لي: أنا آسف يا سارة
.. ولكنك لا تعرفين إحساس الرجل عندما يشعر أنه صغير في عين من يحب .. كان نفسي أفرحك والله ..
فرددت بمكر وبحزن مفتعل: طيب يا عمر أنا ما كنتش عاوزة أقول لك، بس خلاص بقى، الحقيقة الدكتور قال لي أن البيبي ممكن تكون فيه تشوهات ..
نسي كل شيء وصرخ بلهفة: إيه؟ بتقولي إيه؟؟ لا إله إلا الله ..
فضحكت لنجاح خطتي وقلت له: ضحكت عليك .. الولد كويس وزي العفريت، ومطلـّع عيني ياسيدي .. شفت بقي إن المشروع ممكن يتعوض وفيه حاجات تانية لا يمكن تتعوض؟
فرد بإيمان: الحمد لله .. فعلا الشيطان ينسينا النعم الكثيرة التي ننعم بها، ويذكرنا فقط بما فقدنا .. ربنا يخليكي لي إنتي ويحيى ..
تساءلتُ باستغراب: مين يحيى ده يا باشا؟
قـال: إيه رأيك في الإسم ده؟ ده الإسم الوحيد من كل أسماء الكون اللي ربنا عز وجل إختاره بنفسه لنبيه زكريا .. لم نجعل له من قبل سمياً .. وبقية الأسماء من اختيار البشر .. وبعدين قصة سيدنا يحيى تكشف شخصية نورانية تعشقيها من كثرة صفائها، لدرجة إن كل المخلوفات كانت تسبح معه عندما يسبح الله .. وكمان مات شهيداً .. ايه رأيك يا حبيبتي؟
قلت بابتسامة: خلاص موافقة يا أبو يحيى ..
استيقظتُ من نومي وأنا أعاني من آلام متفرقة في كلّ جسدي .. تقريباً لم أنم طوال الليل .. ظللت أتقلب ولم أستطع النوم إلا لدقائق معدودة، كما هو حالي منذ عدة أيام .. وأبكي في كلّ حركة من ثقل جسدي، حتى أنـّني كلّ يوم أتمنى أن ألد في نفس اليوم لأتخلص من هذا العذاب .. سبحان الله، وكأن التعب يزداد في الأيام الأخيرة كي تتغلب الأم على خوفها من الولادة وتتمناها أن تحدث .. آه .. أكاد أموت من الرعب عندما أتخيل هذه الساعات، وأقرأ دوماً سورة الزلزلة، وبعض آيات سور الرعد وفاطر التي تساعد على تيسير الولادة كما قالوا لي .. ولا ترحمني أي واحدة من قريباتي عندما أخبرها بخوفي من الولادة، بل تقصّ على قصصاً مرعبة عن أنها كادت تموت .. والأخرى التي تمزقت من الألم لساعات طويلة .. والثالثة التي كادت تقتل الطبيب والممرضات .. إيه يا جماعة الرعب ده؟ طيب أعمل إيه يعني؟ أفضل حامل على طول ولا أعمل إيه؟
“سارة سارة سارة .. تعالي بسرعة” ..
إيه ده عمر بيصرخ كده ليه؟ .. هرولت إليه، ولكن بسرعة السلحفاة طبعاً، وأنا أهتف: مالك يا عمر خير؟
عمـر: أنا مش مصدق نفسي يا سارة .. بجد مش مصدق ..
أنـا: إيه يا عمر فيه إيه .. أنا ولدت وأنا مش واخدة بالي؟
فأجاب وقلبه يكاد يتوقف من الفرحة: لا .. فاكرة الشركة اللي صممت لها المشروع ولم يختاروه؟
فرددت بتململ وأنا أخشى من فتح هذا الموضوع: مالها؟ عاوزين إيه تاني؟
عمـر: إتصلوا بي وقالوا إن فيه مقابلة النهاردة الساعة 6 مساءاً لأصحاب التصميمات المتميزة اللي ما فازتش، لاختيار مهندسين للتعيين في الشركة بمرتب كبير ..
نسيت تعبي وإرهاقي وهتفت: بجد؟ الحمد لله .. ودي فيها مميزات أحسن من شركتك؟
عمـر: إنتي بتهرّجي؟ .. مفيش مقارنة طبعاً .. دي ضعف الراتب وأكثر .. وكمان بالدولار .. والأهم من كده إن نظام الترقية فيها زي كلّ الشركات متعددة الجنسيات، بالمجهود مش بالأقدمية زي عندنا .. يعني ممكن في خلال شهور أكون مدير تنفيذي مثلاً .. بجد مش مصدق نفسي .. إدعي لي يا وش الخير ..
أنـا: ربنا يكرمك ويوفقك .. إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .. إن شاء الله حيختاروك .. ده رزق يحيى مش وشي أنا .. يالاّ قوم صلي ركعتين قضاء حاجة لله قبل ما تروح واتكل على الله .. ربنا وكيلك ومش ح يضيعك أبداً ..
وانصرف ليصلي ويستعد للخروج وأنا أدعو الله له .. وفجأة شعرت بضربة ألم حادة تشمل جسدي كله وتتركز في منطقة الرحم، وكاد توازني أن يختل من شدة الألم المفاجىء، واستمر دقائق مرّت على كساعات .. ثم اختفى تدريجياً وأنا لا أكاد أستطيع التنفس من شدة الألم، حتى بعد ذهابه ..
وحاولت تناسيه بأن ذهبت لأصلي خلف عمر جماعة كي ندعو الله سوياً أن يكرمنا ويكتب لنا الخير .. وأطال عمر الدعاء بعد الركوع وأنا أؤمن على دعائه بكلّ ذرة في كياني .. ثم سجدنا .. وجاء الألم العاصف مرة أخرى وأنا ساجدة .. يا الله، جسدي يتمزق ولا أقوى حتى على رفع رأسي .. وكتمت صرخة ألم كادت تفلت مني، ودعوت الله وأنا أبكي وأشعر أنـّني ضئيلة ولا أقوى على شيء أمام جند صغير من جنود الجبار؛ ألا وهو الألم .. ولا أعرف كيف نطقت التشهد الأخير، ولكن الألم بدأ في الاختفاء عند نهاية الصلاة .. واستدار عمر إليّ وفزع من شحوب وجهي الرهيب، والعرق المتناثر على وجهي، وسألني بجزع: مالك يا حبيبتي؟ إنتي تعبانة؟ بتولدي ولا إيه؟
لم أشأ أن أخبره كي لا يضيع فرصة عمره ويبقي بجواري: لا يا عمر، ده السجود بس بيتعبني أوي .. بعد كده ح أصلي وأنا قاعدة .. يالا قوم إستعد واتكل على الله ..
قال عمر بإصرار: أرجوكي يا سارة، لو تعبانة قولي وأنا أسيب مواعيد الدنيا علشانك ..
حاولت الإبتسام وأنا أرد عليه: يالاّ بلاش دلع .. لسه أسبوع كامل على ميعاد الولادة .. أنا كويسة خالص وحادخل أنام كمان ..
فصدقني وانصرف وأنا أدعو له .. وما كاد يغلق الباب وراءه حتى عاد الوحش ثانية .. وانهمرت دموعي وكدت أتخلى عن شجاعتي المؤقتة وأناديه كي لا يتركني وحيدة وهذا الألم يفتت كل ذرة في جسدي، وكتمت أنفاسي في وسادة وصرخت بكل قوتي من شدة الألم ..
إنتظرت حتى اختفى، وكلمت أمي وأنا أبكي، وقبل أن أشرح لها أي شيء فهمت أنـّني ألد، وأخبرتني أنـّها ستأتي على الفور مع أبي .. وطلبت مني أن أبدل ملابسي وأحضر حقيبة المولود وأستعد للذهاب الى المستشفى أول ما يوصلوا .. وجريت قبل أن يأتي الإعصار مرة أخرى وبدلت ملابسي، وكنت جهـّزت حقيبة يحيى من قبل ولم أنس الآيس كاب واللوشن .. آه لا أستطيع حتى الإبتسام .. أين أنت يا عمر كي أحتمي بك من الزلزال الذي يأتيني بلا رحمة؟
قــال عمــر:
أين أنتي يا سارة؟ .. ياليتك كنتي معي .. دقائق الإنتظار قاتلة والجميع يبدو على وجوههم علامات القلق الشديد .. ولكن العدد ليس كبيراً .. يارب .. يارب .. يارب ..
قــالت ســارة:
وأخيييييراً وصل ماما وبابا وأنا تكاد روحي تخرج من حلقي من شدة الألم الذي يزداد عنفاً كل مرة وتتقارب نوباته حتى تكاد تلتحم .. وما أن رآني أبي في هذه الحالة حتى أجهش في البكاء، وضمني إليه وكأنـّه يهدهد طفلته الصغيرة التي ستصبح أماً .. أما ماما فكانت متماسكة جداً وكأنها تحولت فجأة إلى طبيبة نساء وهي تسألني عن مدة الألم وتباعد نوباته، وعندما أخبرتها .. قالت لي بهدوء: لسه بدري .. أقعدوا وأنا أعمل لكم شاي .. أصل البكريّة بتطول شوية ..
فكدت أصرخ، ولكن بابا سبقني وصرخ فيها هو: يالاّ على المستشفى بسرعة، يمكن يدوها مسكن ولا يريحوها بأي شكل ..
فردت أمي بسخرية: مسكن.! .. ليه؟ حتعمل اللوز؟ أصل الولادة دي…..
ولم يمهلها أبي عندما رأى نوبة الألم تجيئني بلا رحمة حتى لم أستطع الوقوف على قدمي، فحملني كالطفلة الصغيرة وهرع خارج المنزل وأمي لا تكاد تلاحقه ..
قــال عمــر:
يارب ما هذا الإحساس؟ الله يكون في عونك يا سارة .. أنا أشعر وكأن مستقبلي كله سيولد من هذا المكان كما ستلد هي ابننا .. آه ما أصعبه من شعور .. يالله يا مغيث ..
قــالت ســارة:
يا الله يا مغيث .. يارب أغثني من هذا العذاب ..
علمت الآن لم تمنـّت السيدة مريم الموت قبلاً عندما جاءتها آلام الولادة وهي خير نساء العالمين .. ماذا سأفعل أنا؟ ألا يوجد سبيل لأن يخفت الألم قليلاً؟ قلبي يكاد يتوقف ..
قــال عمــر:
قلبي يكاد يتوقف من القلق عند كل سؤال يسأله لي المدير الأجنبي .. وأتمتم بآيات القرآن وكل الأدعية التي أعرفها .. يارب .. يارب ..
قــالت ســارة:
يارب .. يارب .. أنا خلاص مش عاوزة أولد رجعت في كلامي .. لأ حرام حاموت .. بجد مش قادرة .. طيب ح أولد أمتى؟ ولا مجيب ..
الدكتورة فحصتني وقالت باقي حوالى ساعتين .. إيه؟ ساعتين كاملتين في هذا العذاب؟
الدقيقة تسوي دهر كامل .. يارب مش قادرة خلاص ..
قــال عمــر:
يااااه مش قادر خلاص على هذا الإنتظار المدمر للأعصاب .. المدير يتفحص السيرة الذاتية الخاصة بي بدقة بعد عشرات الأسئلة الدقيقة .. ثم إبتسم أخيراً وأخبرني أن أكون مستعداً للعمل معهم الأسبوع المقبل .. يالله .. يكاد نبضي يتوقف من شدة الفرح .. اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك .. وطلبت سارة لأبشرها وأشركها سعادتي .. ردّت عليّ والدتها وأخبرتني بأن سارة بتولد في المستشفى ..
يعني كانت تعبانة فعلاً قبل ما أنزل وما رضيتش تقولّي علشان ما أضيعش مقابلة العمل .. وتحملت كل هذا العذاب وحدها من أجلي؟ .. يارب كيف أكافيء هذا الملاك؟!!
أخيراً وصلت المستشفى بعد ما كسرت عشر إشارات واتخانقت مع كل الدنيا علشان يفتحوا لي الطريق، وأكاد أصرخ في وسط الشارع: مراتي بتولد ياااااااااااا عالم .. ووصلت لها لأجدها تحولت إلى كتلة ألم .. والعرق الغزير يغطي جبينها، والمحاليل تخترق كل جسدها، وأبوها يبكي ويتلو القرآن، وأمها تروح وتذهب مع الطبيبة وتأتي لها بأغراضها .. فلم أتمالك نفسي عندما رأيتها، وقبلت يديها أمام الجميع وبكينا سوياً .. وهمست في أذنها بأنـّي عينت في الشركة الجديدة، فحمدت الله في وهن ..
وجاءت الطبيبة تخبرنا أنها ستنقلها إلى غرفة العمليات .. فطلبت أن أكون معها .. ودخلنا وهي تصرخ من الألم العاصف، وأنا أشد على يديها وأهمس في أذنها بكلمات الصبر والتشجيع، وأذكرها بكل لحظاتنا الجميلة التي تشاركناها .. وهي لا تكاد تعي ما أقول .. ولكنـّها تقبض على يدي بكل قوة وكأنـّها تخشى أن أتركها ثانية .. وتمر الدقائق طويلة وأنا وهي نكاد نصبح كياناً واحداً صهره الألم بين يدي الرحمن .. نسأله أن يرزقنا قطعة منا ..
ويمر الوقت ثقيلاً حتى جاءت البشرى .. صوت بكاء إبننا يشقّ الكون وكأنـّه يعلن للعالم وجوده ..
أخذته الطبيبة ولفّته بعناية ووضعته في أحضان سارة وأحضاني .. وأخذنا ننظـر إليه بحنان بالغ وقد زال كلّ ألم سارة عندما رأته .. اخذنا نتلمـّسه غير مصدقين أن رحمة الله وعطاءه تتجسد في هذا الكائن مغمض العينين، جميل الوجة كأنه أحد الملائكة .. وحملته بحرص وتلوت كلمات الآذان والقرآن في أذنيه حتى استكان بين يدي وكأنه يعي نداء خالقه ..
وأخذته سارة وسالت دموعها وهي تتلمس قطعة منها نما بجوار قلبها، وقالت بصوت واهن ولكن سعيد: حلو أوي مش كده يا عمر؟
فرد الأب بداخلي لأول مرة: تبارك الله أحسن الخالقين .. أجمل كائن في الدنيا رأته عيني .. ربنا يخليكوا ليّ إنتي وهو يا أم يحيى .. يا أغلى انسانة ليّا في الوجود ..
-تمت بحمد الله-
#يوميت_عمر_وسارة
قــالت ســارة:
لن أنسى تلك اللحظة التي أخبرني فيها عمر بعدم اختيار الشركة لتصميمه .. وقتها تماسكت ولم أنفجر في البكاء كما كنت أتمنى .. واجتهدت أن أخرج صوتي طبيعي وأنا أكمل إجابته: وما اختاروش مشروعك مش كده، طيب وفيها إيه؟ ماهو الإحتمال ده كنا متوقعينه برضه؟ إيه المشكلة؟ فردّ عليّ عمر وكأنـّه كهل عجوز يحمل الدنيا فوق كتفيه: إيه المشكلة؟! إيه البساطة دي؟!! المشكلة إنـّنا خسرنا كل حاجة .. إنتي خسرتي كل ذهبك، وأنا خسرت ثقتي في نفسي، وشكلي أمام الكل، وخسـّرتك معايا كل حاجة ..
فرددت بمرح: الكل مين يا حبيبي؟ أنا بس اللي عارفة الموضوع ده .. وبعدين تفتكر شكلك ح يتهز قدامي من محاولة خسرتها؟ .. ده إنت الدنيا وما فيها يا حبيبي، وفداك دهب العالم كله ..
فلم يستطع النظر إلى عيني، وأشاح وجهه عني كي لا أرى دموع عينيه: أرجوكي يا سارة، إنتي بتزودي إحساسي بالذنب بكلامك ده ..أنا خذلتك وضيعت كل حاجة، وربنا يقدرني وأعوضك .. أنا آسف آسف آسف ..
فأخذت أقرأ آيات القرآن على جبينه كي يهدأ، وأنا أطلب من الله القوة والعون كي لا أنهار مثله .. من يقول عن المرأة أنها أضعف من الرجل؟ .. إنه مطلوب منها أن تكون زوجته وحبيبته وأخته وصديقته وأمه أيضاً .. فهداني الله لفكرة من الممكن أن تهدئه قليلاً، فقلت له: يا ريت كلّ الخسارة تكون في الفلوس .. تخيل لو إنـّك حصل لك حاجة حنعمل إيه أنا وإبنك في الدنيا؟ ربنا يخليك لنا ألف سنة .. أنت لسه بكامل صحتك وفي عز شبابك .. وتستطيع فعل المعجزات .. تخيل لو فقدت هذه الصحة وكسبت المشروع؟ أيهم سيسعدك أكثر؟
فهدأ قليلا لكلامي ولكنه رد بألم وقال لي: أنا آسف يا سارة
فرددت بمكر وبحزن مفتعل: طيب يا عمر أنا ما كنتش عاوزة أقول لك، بس خلاص بقى، الحقيقة الدكتور قال لي أن البيبي ممكن تكون فيه تشوهات ..
نسي كل شيء وصرخ بلهفة: إيه؟ بتقولي إيه؟؟ لا إله إلا الله ..
فضحكت لنجاح خطتي وقلت له: ضحكت عليك .. الولد كويس وزي العفريت، ومطلـّع عيني ياسيدي .. شفت بقي إن المشروع ممكن يتعوض وفيه حاجات تانية لا يمكن تتعوض؟
فرد بإيمان: الحمد لله .. فعلا الشيطان ينسينا النعم الكثيرة التي ننعم بها، ويذكرنا فقط بما فقدنا .. ربنا يخليكي لي إنتي ويحيى ..
تساءلتُ باستغراب: مين يحيى ده يا باشا؟
قـال: إيه رأيك في الإسم ده؟ ده الإسم الوحيد من كل أسماء الكون اللي ربنا عز وجل إختاره بنفسه لنبيه زكريا .. لم نجعل له من قبل سمياً .. وبقية الأسماء من اختيار البشر .. وبعدين قصة سيدنا يحيى تكشف شخصية نورانية تعشقيها من كثرة صفائها، لدرجة إن كل المخلوفات كانت تسبح معه عندما يسبح الله .. وكمان مات شهيداً .. ايه رأيك يا حبيبتي؟
قلت بابتسامة: خلاص موافقة يا أبو يحيى ..
استيقظتُ من نومي وأنا أعاني من آلام متفرقة في كلّ جسدي .. تقريباً لم أنم طوال الليل .. ظللت أتقلب ولم أستطع النوم إلا لدقائق معدودة، كما هو حالي منذ عدة أيام .. وأبكي في كلّ حركة من ثقل جسدي، حتى أنـّني كلّ يوم أتمنى أن ألد في نفس اليوم لأتخلص من هذا العذاب .. سبحان الله، وكأن التعب يزداد في الأيام الأخيرة كي تتغلب الأم على خوفها من الولادة وتتمناها أن تحدث .. آه .. أكاد أموت من الرعب عندما أتخيل هذه الساعات، وأقرأ دوماً سورة الزلزلة، وبعض آيات سور الرعد وفاطر التي تساعد على تيسير الولادة كما قالوا لي .. ولا ترحمني أي واحدة من قريباتي عندما أخبرها بخوفي من الولادة، بل تقصّ على قصصاً مرعبة عن أنها كادت تموت .. والأخرى التي تمزقت من الألم لساعات طويلة .. والثالثة التي كادت تقتل الطبيب والممرضات .. إيه يا جماعة الرعب ده؟ طيب أعمل إيه يعني؟ أفضل حامل على طول ولا أعمل إيه؟
“سارة سارة سارة .. تعالي بسرعة” ..
إيه ده عمر بيصرخ كده ليه؟ .. هرولت إليه، ولكن بسرعة السلحفاة طبعاً، وأنا أهتف: مالك يا عمر خير؟
عمـر: أنا مش مصدق نفسي يا سارة .. بجد مش مصدق ..
أنـا: إيه يا عمر فيه إيه .. أنا ولدت وأنا مش واخدة بالي؟
فأجاب وقلبه يكاد يتوقف من الفرحة: لا .. فاكرة الشركة اللي صممت لها المشروع ولم يختاروه؟
فرددت بتململ وأنا أخشى من فتح هذا الموضوع: مالها؟ عاوزين إيه تاني؟
عمـر: إتصلوا بي وقالوا إن فيه مقابلة النهاردة الساعة 6 مساءاً لأصحاب التصميمات المتميزة اللي ما فازتش، لاختيار مهندسين للتعيين في الشركة بمرتب كبير ..
نسيت تعبي وإرهاقي وهتفت: بجد؟ الحمد لله .. ودي فيها مميزات أحسن من شركتك؟
عمـر: إنتي بتهرّجي؟ .. مفيش مقارنة طبعاً .. دي ضعف الراتب وأكثر .. وكمان بالدولار .. والأهم من كده إن نظام الترقية فيها زي كلّ الشركات متعددة الجنسيات، بالمجهود مش بالأقدمية زي عندنا .. يعني ممكن في خلال شهور أكون مدير تنفيذي مثلاً .. بجد مش مصدق نفسي .. إدعي لي يا وش الخير ..
أنـا: ربنا يكرمك ويوفقك .. إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .. إن شاء الله حيختاروك .. ده رزق يحيى مش وشي أنا .. يالاّ قوم صلي ركعتين قضاء حاجة لله قبل ما تروح واتكل على الله .. ربنا وكيلك ومش ح يضيعك أبداً ..
وانصرف ليصلي ويستعد للخروج وأنا أدعو الله له .. وفجأة شعرت بضربة ألم حادة تشمل جسدي كله وتتركز في منطقة الرحم، وكاد توازني أن يختل من شدة الألم المفاجىء، واستمر دقائق مرّت على كساعات .. ثم اختفى تدريجياً وأنا لا أكاد أستطيع التنفس من شدة الألم، حتى بعد ذهابه ..
وحاولت تناسيه بأن ذهبت لأصلي خلف عمر جماعة كي ندعو الله سوياً أن يكرمنا ويكتب لنا الخير .. وأطال عمر الدعاء بعد الركوع وأنا أؤمن على دعائه بكلّ ذرة في كياني .. ثم سجدنا .. وجاء الألم العاصف مرة أخرى وأنا ساجدة .. يا الله، جسدي يتمزق ولا أقوى حتى على رفع رأسي .. وكتمت صرخة ألم كادت تفلت مني، ودعوت الله وأنا أبكي وأشعر أنـّني ضئيلة ولا أقوى على شيء أمام جند صغير من جنود الجبار؛ ألا وهو الألم .. ولا أعرف كيف نطقت التشهد الأخير، ولكن الألم بدأ في الاختفاء عند نهاية الصلاة .. واستدار عمر إليّ وفزع من شحوب وجهي الرهيب، والعرق المتناثر على وجهي، وسألني بجزع: مالك يا حبيبتي؟ إنتي تعبانة؟ بتولدي ولا إيه؟
لم أشأ أن أخبره كي لا يضيع فرصة عمره ويبقي بجواري: لا يا عمر، ده السجود بس بيتعبني أوي .. بعد كده ح أصلي وأنا قاعدة .. يالا قوم إستعد واتكل على الله ..
قال عمر بإصرار: أرجوكي يا سارة، لو تعبانة قولي وأنا أسيب مواعيد الدنيا علشانك ..
حاولت الإبتسام وأنا أرد عليه: يالاّ بلاش دلع .. لسه أسبوع كامل على ميعاد الولادة .. أنا كويسة خالص وحادخل أنام كمان ..
فصدقني وانصرف وأنا أدعو له .. وما كاد يغلق الباب وراءه حتى عاد الوحش ثانية .. وانهمرت دموعي وكدت أتخلى عن شجاعتي المؤقتة وأناديه كي لا يتركني وحيدة وهذا الألم يفتت كل ذرة في جسدي، وكتمت أنفاسي في وسادة وصرخت بكل قوتي من شدة الألم ..
إنتظرت حتى اختفى، وكلمت أمي وأنا أبكي، وقبل أن أشرح لها أي شيء فهمت أنـّني ألد، وأخبرتني أنـّها ستأتي على الفور مع أبي .. وطلبت مني أن أبدل ملابسي وأحضر حقيبة المولود وأستعد للذهاب الى المستشفى أول ما يوصلوا .. وجريت قبل أن يأتي الإعصار مرة أخرى وبدلت ملابسي، وكنت جهـّزت حقيبة يحيى من قبل ولم أنس الآيس كاب واللوشن .. آه لا أستطيع حتى الإبتسام .. أين أنت يا عمر كي أحتمي بك من الزلزال الذي يأتيني بلا رحمة؟
قــال عمــر:
أين أنتي يا سارة؟ .. ياليتك كنتي معي .. دقائق الإنتظار قاتلة والجميع يبدو على وجوههم علامات القلق الشديد .. ولكن العدد ليس كبيراً .. يارب .. يارب .. يارب ..
قــالت ســارة:
وأخيييييراً وصل ماما وبابا وأنا تكاد روحي تخرج من حلقي من شدة الألم الذي يزداد عنفاً كل مرة وتتقارب نوباته حتى تكاد تلتحم .. وما أن رآني أبي في هذه الحالة حتى أجهش في البكاء، وضمني إليه وكأنـّه يهدهد طفلته الصغيرة التي ستصبح أماً .. أما ماما فكانت متماسكة جداً وكأنها تحولت فجأة إلى طبيبة نساء وهي تسألني عن مدة الألم وتباعد نوباته، وعندما أخبرتها .. قالت لي بهدوء: لسه بدري .. أقعدوا وأنا أعمل لكم شاي .. أصل البكريّة بتطول شوية ..
فكدت أصرخ، ولكن بابا سبقني وصرخ فيها هو: يالاّ على المستشفى بسرعة، يمكن يدوها مسكن ولا يريحوها بأي شكل ..
فردت أمي بسخرية: مسكن.! .. ليه؟ حتعمل اللوز؟ أصل الولادة دي…..
ولم يمهلها أبي عندما رأى نوبة الألم تجيئني بلا رحمة حتى لم أستطع الوقوف على قدمي، فحملني كالطفلة الصغيرة وهرع خارج المنزل وأمي لا تكاد تلاحقه ..
قــال عمــر:
يارب ما هذا الإحساس؟ الله يكون في عونك يا سارة .. أنا أشعر وكأن مستقبلي كله سيولد من هذا المكان كما ستلد هي ابننا .. آه ما أصعبه من شعور .. يالله يا مغيث ..
قــالت ســارة:
يا الله يا مغيث .. يارب أغثني من هذا العذاب ..
علمت الآن لم تمنـّت السيدة مريم الموت قبلاً عندما جاءتها آلام الولادة وهي خير نساء العالمين .. ماذا سأفعل أنا؟ ألا يوجد سبيل لأن يخفت الألم قليلاً؟ قلبي يكاد يتوقف ..
قــال عمــر:
قلبي يكاد يتوقف من القلق عند كل سؤال يسأله لي المدير الأجنبي .. وأتمتم بآيات القرآن وكل الأدعية التي أعرفها .. يارب .. يارب ..
قــالت ســارة:
يارب .. يارب .. أنا خلاص مش عاوزة أولد رجعت في كلامي .. لأ حرام حاموت .. بجد مش قادرة .. طيب ح أولد أمتى؟ ولا مجيب ..
الدكتورة فحصتني وقالت باقي حوالى ساعتين .. إيه؟ ساعتين كاملتين في هذا العذاب؟
الدقيقة تسوي دهر كامل .. يارب مش قادرة خلاص ..
قــال عمــر:
يااااه مش قادر خلاص على هذا الإنتظار المدمر للأعصاب .. المدير يتفحص السيرة الذاتية الخاصة بي بدقة بعد عشرات الأسئلة الدقيقة .. ثم إبتسم أخيراً وأخبرني أن أكون مستعداً للعمل معهم الأسبوع المقبل .. يالله .. يكاد نبضي يتوقف من شدة الفرح .. اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك .. وطلبت سارة لأبشرها وأشركها سعادتي .. ردّت عليّ والدتها وأخبرتني بأن سارة بتولد في المستشفى ..
يعني كانت تعبانة فعلاً قبل ما أنزل وما رضيتش تقولّي علشان ما أضيعش مقابلة العمل .. وتحملت كل هذا العذاب وحدها من أجلي؟ .. يارب كيف أكافيء هذا الملاك؟!!
أخيراً وصلت المستشفى بعد ما كسرت عشر إشارات واتخانقت مع كل الدنيا علشان يفتحوا لي الطريق، وأكاد أصرخ في وسط الشارع: مراتي بتولد ياااااااااااا عالم .. ووصلت لها لأجدها تحولت إلى كتلة ألم .. والعرق الغزير يغطي جبينها، والمحاليل تخترق كل جسدها، وأبوها يبكي ويتلو القرآن، وأمها تروح وتذهب مع الطبيبة وتأتي لها بأغراضها .. فلم أتمالك نفسي عندما رأيتها، وقبلت يديها أمام الجميع وبكينا سوياً .. وهمست في أذنها بأنـّي عينت في الشركة الجديدة، فحمدت الله في وهن ..
وجاءت الطبيبة تخبرنا أنها ستنقلها إلى غرفة العمليات .. فطلبت أن أكون معها .. ودخلنا وهي تصرخ من الألم العاصف، وأنا أشد على يديها وأهمس في أذنها بكلمات الصبر والتشجيع، وأذكرها بكل لحظاتنا الجميلة التي تشاركناها .. وهي لا تكاد تعي ما أقول .. ولكنـّها تقبض على يدي بكل قوة وكأنـّها تخشى أن أتركها ثانية .. وتمر الدقائق طويلة وأنا وهي نكاد نصبح كياناً واحداً صهره الألم بين يدي الرحمن .. نسأله أن يرزقنا قطعة منا ..
ويمر الوقت ثقيلاً حتى جاءت البشرى .. صوت بكاء إبننا يشقّ الكون وكأنـّه يعلن للعالم وجوده ..
أخذته الطبيبة ولفّته بعناية ووضعته في أحضان سارة وأحضاني .. وأخذنا ننظـر إليه بحنان بالغ وقد زال كلّ ألم سارة عندما رأته .. اخذنا نتلمـّسه غير مصدقين أن رحمة الله وعطاءه تتجسد في هذا الكائن مغمض العينين، جميل الوجة كأنه أحد الملائكة .. وحملته بحرص وتلوت كلمات الآذان والقرآن في أذنيه حتى استكان بين يدي وكأنه يعي نداء خالقه ..
وأخذته سارة وسالت دموعها وهي تتلمس قطعة منها نما بجوار قلبها، وقالت بصوت واهن ولكن سعيد: حلو أوي مش كده يا عمر؟
فرد الأب بداخلي لأول مرة: تبارك الله أحسن الخالقين .. أجمل كائن في الدنيا رأته عيني .. ربنا يخليكوا ليّ إنتي وهو يا أم يحيى .. يا أغلى انسانة ليّا في الوجود ..